ilboursa.com

الخبير أنيس وهابي

أدت السياسات العمومية المنفلتة واللامسؤولية لعدة سنوات إلى عجز متواصل في الميزانية وتداين متراكم بلغ مستويات قياسية تهدد ديمومة القدرات المالية للدولة واستقلالية القرار الوطني. تبعا لذلك أصبحت إعادة الهيكلة الشاملة للمالية العمومية ضرورة ملحة وعاجلة لإنقاذ البلد من الانهيار، سواء كان ذلك بتدخل صندوق النقد الدولي أو بدونه. وإن كان صندوق النقد الدولي يدعو على لسان ممثله في شمال افريقيا والشرق الأوسط إلى اعتماد برنامج اصلاح مبنى على حلول "مستجدة" فإن الخطاب السياسي الرسمي في تونس يرفض منظومة الصندوق داعيا حكومته إلى ايجاد حلول بديلة.

هناك اذن اتفاق بين الطرفين على الأقل أن المقاربات القديمة المبنية على القائمات الجاهزة والإجراءات المنعزلة لن يجدي نفعا في الحالة التونسية. لا بد إذن أن يؤدي تشخيص الوضعية إلى إيجاد مقاربات جديدة يمكن أن تقطع مع القديم وأن ترضي حالة الاحساس بالتفرد التونسية، ليس فقط ما يتعلق بأفكار الإصلاح ولكن كذلك في ما يخص تهيئة الشروط الضرورية لتحقيق التغيير المنشود.

عجز المالية العمومية هو الجزء الظاهر من جبل الجليد

ينطلق برنامج الإصلاح الهيكلي من تقليص عجز الميزانية الذي تراوح بين 8,7% من الناتج الداخلي الخام في سنة 2020 و7,6% في سنة 2021 و6,8% في سنة 2022 وهو ما كان مصدرا للتضخم بسبب التمويل النقدي لعجز الميزانية.

وحيث أن كتلة الأجور تمثل 31% من الحجم الإجمالي للميزانية و55% من نفقات التصرف، يستهدف برنامج الاصلاح بصفة بدائية هذا العنوان كأولوية. ضروري التأكيد هنا أن التعامل مع كتلة الأجور في الوضعية التونسية يستوجب تحليلا أعمق مما نراه ونسمعه من هنا وهناك وربما يستوجب الامر ورقة على حدة. نقتصر بالذكر هنا فقط أن صندوق النقد الدولي يعتمد سقف 14% لكتلة الأجور مقابل الناتج الداخلي الخام، فإن كانت هذه النسبة مرتفعة فذلك يعود أساسا إلى ضعف الناتج الداخلي الخام الذي بقي يراوح مكانه أو يكاد منذ سنوات. علما وأن العدد الأهم من الموظفين مركز في أربع وزارات هي التعليم والداخلية والدفاع والصحة والتي مازالت تشكو رغم ارتفاع العدد من نقص في الموارد البشرية، فضلا على ضعف نسبة التأطير من جهة وضعف مستوى التأجير من جهة أخرى.

يستهدف برنامج اصلاح المالية العمومية عنوانا آخر لا يقل أهمية ويتعلق بصندوق الدعم بصفة عامة والدعم الطاقي بصفة خاصة. ترتبط منظومة الدعم في تونس بالسنوات السبعين، عندما اختارت البلاد منوالا اقتصاديا يعتمد على تخفيض الكلفة كوسيلة للاندماج في سلسلة القيمة العالمية، وكان من خصائص هذا المنوال الضغط على الأجور في القطاعين العام والخاص مقابل الدعم المباشر لأسعار المواد الأساسية الغذائية والطاقية. كانت سنوات السبعين سنوات الانتعاش الاقتصادي في تونس نظرا لتسجيل نسب نمو عالية ولارتفاع انتاج تونس من البترول والفسفاط مما سمح للسياسات العمومية في تلك الفترة من إقرار نظام اجتماعي ذو اكراميات واسعة. وحتى التسعينات لم تتجاوز كلفة الدعم 2٪؜ من اجمالي الميزانية ثم ارتفعت شيئا فشيئا إلى مستويات غير مقبولة تناهز حاليا 12٪؜، حيث يتم تمويل الاستهلاك المباشر على حساب سياسات أكثر عمقا تستهدف الاستثمار وبالتالي النمو.

أنظمة الضمان الاجتماعي التي لم تتأقلم مع التطورات الديمغرافية ولم تطور طرق عملها مما أدى إلى عجز هيكلي ينذر بمخاطر جمة على المدى المتوسط. كما تتوسع مشاكل المالية العمومية لتشمل المؤسسات العمومية التي أصبحت تعيش بفتات تحويلات الميزانية دون مقاربات واضحة في مناويلها الاقتصادية وأنظمة حوكمتها وطبيعة علاقتها بالسياسات العمومية من جهة والمحيط الاقتصادي من جهة أخرى. من الضروري إذن أن يشمل الإصلاح تعزيز حوكمة هذه المؤسسات وتحسين جودة المعلومات المالية وتطوير الشفافية في التصرف.

ضعف النمو هو السبب الجذري

يبقى النمو أهم معضلة في الحالة التونسية، إذ أن المستويات الحالية للنمو والتي لم تتخط معدل نقطة وحيدة من 2011 الى 2022 بينما تحتاج البلاد إلى نسبة تتجاوز 7٪؜ سنويا ولمدة طويلة لاستيعاب احتياجات البلاد والمرور إلى مستوى معيشي محترم. والمطلوب أيضا أن يكون النمو اندماجيا حتى يحقق نوعا من التوازن الاقتصادي الضروري لتحقيق الاستقرار الاجتماعي.

والنمو يمر حتما عبر تحسين مناخ الاعمال وهو ما يعني أكثر مساندة للقطاع الخاص وأكثر مرونة في تعامل القطاع العمومي مع الخاص وأقل تعقيدات بيوقراطية وتشريعية في مجالات الاستثمار والعمل والتجارة. وهذا ما يؤدي بالقطاع الخاص إلى خلق مواطن شغل وتحقيق أكثر اندماجية للاقتصاد.

يستوجب تحقيق النمو كذلك الاصلاح الجبائي وذلك بهدف ادماج أكبر عدد ممكن من دافعي الضرائب في المنظومة وتوسيع قاعدة الأداء وبالتالي تحسين توزيع العبء الجبائي وتخفيض الضغط الجبائي وتحسين المردود الجبائي.

إن اصلاح النظام الجبائي يهدف إلى تحقيق المساواة (أو الانصاف) في تحمل الأعباء العمومية وهذا مهم خاصة من الناحية النفسية والأهم من ذلك من الناحية العملية أن يكون النظام الجبائي محفزا للنمو لا كابحا له وأن يؤدي الإصلاح إلى ضمان عائد مباشر للسياسات العمومية، أي بعبارة أخرى أن تجد الدولة مردودا جبائية مباشرا للاستثمارات والمصاريف التي تقوم بها في سبيل تنشيط الاقتصاد.

يقتضي النمو أيضا القضاء على وضعيات الاحتكار ونظام الريع المهيمن على الاقتصاد والذي يحول دون الابتكار وخلق فرص جديدة لتحديث الاقتصاد والنهوض به كما يقتضي خطة حقيقية وملائمة لتركيز آليات فعالة لمكافحة الفساد وغسيل الأموال.

تشكل هذه المحاور الكبرى للإصلاح نقاطا مشتركة بين ما تعلنه الحكومة التونسية في مختلف تقاريرها وما يطلبه صندوق النقد الدولي ومن ورائه كل مؤسسات القرض والدول المانحة. ولم تخل مخططات التنمية المتعاقبة (2016-2020 و2022-2023) من مقترحات قيمة في هذا المجال كما أبلت وزارة الصناعة والتخطيط البلاء الحسن في تقديم عشرات المقترحات من الإجراءات المستعجلة وطويلة المدى. ما الذي ينقص إذن لتحقيق هذه الإجراءات؟

الخروج من الصندوق هو الحل للإصلاح

إن ما ينقص كل خطط الإصلاح هو الجرأة على القطع مع المنظومات المتكلسة التي تعوق التقدم، بدأً من المنظومة القانونية والمؤسساتية المتحجرة إلى الأنظمة الحمائية للريع، مرورا بطرق عمل الإدارة العمومية وقدراتها. إن عملية الإصلاح تستوجب قرارات جريئة تقطع مع مسلمات الوضع الحالي وتنتهج استراتيجة "قفزة الضفدعة" التي اعتمددتها عديد الدول الآسيوية ودول قريبة مثل المغرب.

يجب أن تتعلق عملية الخروج من الصندوق بالإجراءات في حد ذاتها وفي هذا المجال يمكن الاستئناس بعديد التجارب المقارنة، نذكر منها بعض الأمثلة:

تقتصر هذه القائمة على بعض الأفكار فقط التي تؤكد أن الحلول والأفكار متوفرة للخروج من انسداد افق عملية الإصلاح. إلا أن اعتماد مثل هذه الأفكار وتحويلها إلى إجراءات عملية رهين بعديد الشروط القبلية.

توفر الشروط القبلية هو أساس عملية الإصلاح

لسائل أن يتساءل عن أسباب عدم قدرة تونس على التحول إلى هذا المنوال الجديد والحال أن مبادئه معروفة وموثقة في مخططات التنمية المتعاقبة منذ سنوات؟ وكيف أعوزنا الذكاء اللازم لتحقيق هذه الأفكار على أرض الواقع وكل الوثائق تراهن على الاقتصاد المبني على الذكاء؟ 

لابد من البحث على الأسباب الجذرية لهذه الضاهرة والتي ترتبط بتحجر المنظومة القانونية والنزعة المحافظة المبالغ فيها في الجوانب الاقتصادية وقطيعة القطاع العام عن القطاع الخاص مما أدى إلى غياب الأفكار الجديدة. على سبيل المثال، نذكر أن المنظومة القانونية في القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل منظومة الصرف والقانون التجاري ومنظومة الاستثمار (برغم تغير القوانين) وقانون المنافسة، الخ بقيت متجمدة منذ السبعينات.

إن تحديد الأسباب الجذرية لحالة الجمود الحالية أهم محور يجدر تناوله في أية مبادرة سياسية أو اجتماعية، لأن الاشكال ليس في الحلول التقنية ولكن في أسباب تنفيذها. يمكن تجميع الأسباب الجذرية في النقاط التالية:

الوعي بالتغيير: هل التغيير ضروري ؟

ربما تكون هذه النطقة بديهية لكنها ضرورية لكي تنطلق أية خطة للإصلاح. إن الوعي بضرورة التغيير تتعدى مستوى إعلان النوايا لكي تتحول إلى إيمان حقيقي بعمق التغيير المطلوب وإننا لو تعمقنا جيدا في دراسة سلوك المواطن التونسي بصفة عامة والناخب التونسي بصفة خاصة، نجد أن اختياراته السياسية لا تنفك في البحث عن تغيير حقيقي وجوهري يقوض المنظومات القديمة ولو أخطأ الاختيار أو عجز عن التعبير عنه.

الوعي بضرورة التغيير يجب أن يؤدي إلى تحديد الأولويات وهذا دور القيادة السياسية وفي علوم إدارة التغيير يبدأ المسار عندما ينتاب الجميع الإحساس باستعجال التغيير.

المنظومة الاجتماعية للدولة : من ينتفع ومن يتحمل الكلفة؟

توقف المنوال الاجتماعي الاقتصادي التونسي في حقبة السبعينات، حين اعتمد على توجه السوق الأوروبية إلى اخراج الصناعات الخفيفة من المجال الأوروبي والبحث على منصات تصنيعية ذات كلفة منخفضة، إضافة الى طفرة انتاج البترول والفسفاط التي سمحت بسياسة اجتماعية مبسوطة اليد خلقت صناديق اجتماعية كريمة ومبذرة ومنظومة دعم سفيهة.

من الضروري اليوم وقد اتضحت حدود المنوال وتبين للجميع حدود المالية العمومية لتحمله إعادة النظر في مفهوم التضامن، ليس ذلك من باب الرجوع في الواجب الاجتماعي للدولة ولكن بأن يعي السياسي أن لكل قرار كلفة وتبعات مالية يجب تحديد من يتحملها وأن يتم تطوير قدرة الدولة على التعرف على وضعية المستحقين للدعم وتكريس مبدأ التحمل المباشر للمنتفع بالخدمة وإعادة تنظيم ميكانيزمات العمل الاجتماعي.

المنظومة المؤسساتية : ماهي القواعد وكيف يتم تنفيذها؟

إن المرور إلى منوال اقتصادي جديد يستوجب إعادة النظر في التركيبة المؤسساتية للمنظومات الاقتصادية لكي تواكب المستجدات العالمية وتفتح مجالات الاستثمار والمال والأعمال. إذ لايمكن تطوير الاقتصاد ومازالت المنظومة القانونية متوقفة في الظرف الاقتصادي لسنوات التسعينات. ولا يكفي ان يقضي قانون الاستثمار "ان الاستثمار حر" لكي يكون الاستثمار حرا حقيقة وواقعا. ضروري اذن التطور بالمنظومة المؤسساتية ككل لتكريس الحرية كمبدأ وتحرير المبادرة وعدم تجريم أخطاء التصرف في القطاعين العام والخاص.

يقتضي الأمر كذلك تطوير المنظومة القانونية لحماية حقيقية للأفكار وللإبداع وللملكية الفكرية وللملكية الصناعية وتطوير نظام الملكية العقارية حتى يصبح ملائما لاحتياجات الجديدة للاقتصاد من حيث الإجراءات والآجال.

تقسيم الأدوار: أي دور للدولة وللقطاعات الأخرى؟

إن الإرث التاريخي للدولة في تموقعها في الحياة العامة وتراكم عديد التجارب منذ الدولة الحفصية إلى اليوم جعلها مهيمنة على المجال العام. هذه الهيمنة تكاد تجعل منها الفاعل الاقتصادي الأوحد في تهميش شبه تام للقطاع الخاص الذي أصبح تابعا للقطاع العام ومتمعشا منه والحال أن القطاع الخاص هو الصانع الحقيقي للثروة في مناخات أخرى.

من الضروري اذن إعادة النظر في دور القطاع العام وتحديد مجال تدخله في الخدمات العمومية والخدمات التي تشكل استمرارا لدور الدولة الاجتماعي. لا يعني هذا بالضرورة التخلي عن المؤسسات العمومية الناشطة في القطاعات التنافسية ولكن التخلي عن التدخل المباشر للدولة في الأسواق وتحولها الى مالك لرأس المال يمارس حقوقه كمساهم لا كمتدخل في القواعد التنافسية.

زيادة على تحرير دور القطاع الخاص في خلق الثروة يجدر توضيح دور القطاع الاجتماعي التضامني باعتباره حلا اجتماعيا أكثر منه حلا مباشرا لخلق الثروة.

تحديد العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص: من يخدم من ؟

يعتمد هذا الشرط على فكرة بسيطة قوامها أن القطاع العام (إدارة ومؤسسات خدمات عمومية) هو في خدمة الشراكة القطاع الخاص وفي خدمة المواطن بوصفه "محور التنمية وهدفها".

تحديد موقع تونس في سلاسل القيمة العالمية: كيف تخلق الثروة ؟

يستوجب الصعود في سلاسل القيمة الترفيع من الجودة والاعتماد على القطاعات القادرة على خلق قيمة مضافة حقيقية وعالية وإعادة تشكيل القطاعات التي عرفت وهنا في قيمتها المضافة نتيجة لتغير الظروف الاقتصادية.

يستوجب هذا الامر لا فقط تأطير القدرات العملية لهذه القطاعات ولكن أساسا تطوير اقتصاد المعرفة ومجهودات البحث والتطوير وتأهيل منظومة التعليم والتكوين وادماجها بصفة مباشرة في المسارات الاقتصادية.

طريقة إدارة التغيير: من هم الخاسرون والرابحون؟ وكيف يتم إدارة المواقف؟

هذا هو الدور الفعلي للسياسي: إدارة التغيير عبر التأثير في مكونات الاقتصاد السياسي من مؤسسات ومؤثرين وعلاقات وهو ما يمكن من تحقيق كل الشروط السالف ذكرها.

تم النشر في 26/09/2023

الأكثر قراءة