ilboursa.com

بقلم أنيس الوهابي 

تقول الحكمة "ليس للديمقراطية ثمن ولكن لها كلفة". دفعنا الكلفة ولم نتحصل على الديمقراطية وأصبح الربيع العربي كابوسا على شعوب لم تكن "أنتروبولوجيًّا" متحضرة للعبة صعبة إسمها الحرية.

تكلفت عشرية الرماد على تونس 60 مليار دينار من الدين الاضافي و100 مليار دينار من الخسارة المتراكمة في الناتج الداخلي الخام أي من خلق ثروة كان بالامكان أن تجعل من البلاد تجربة واعدة وخسرت تونس كل مواقعها الريادية وقد كانت مثالا يحتذى به في المنطقة والقارة.

توجت عشرية الفشل بمحاولة تغيير يقودها الرئيس لكن العشرة أشهر التي مرت تستدعي تساؤلا جديا حول فرص نجاح هذه المحاولة بالنظر للمنهجية المعتمدة. ويستوجب هذا التساؤل الانطلاق من تشخيص الوضعية للوقوف على مواطن فشل تجربة التحول الديمقراطي ثم تحديد الأسباب الجذرية للوصول ختاما للحلول.

ما الذي حصل ؟

اكتشف العديد بعد مرور كل هذه السنوات أن كل وعود ما قبل الثورة وما بعدها كانت وهما باعه الساسة لشعب يحب الخرافات. نزعت الثورة أقنعة نظام استبد سياسيا بحجة تحقيق فرحة الحياة لشعبه، ثم اسفرت عشرية "الانتقال الديمقراطي" على موازنة منخرمة لا نجحنا فيها في تحقيق الديمقراطية، لا حافظنا فيها على الشيء من مكاسب المنوال القديم، ولا تمكنا من استنباط منوال جديد يعيد الأمل في البلاد.

ماحصل هو ما يحصل في كل حالات "الاكتفاء بالذات" التي تمظهرت في شعارات من قبيل "المعجزة الاقتصادية التونسية" و"الالتحاق بمصاف الدول المتقدمة" المتداولة قبل 2011 ثم في شعارات على شاكلة "التجربة الديمقراطية الرائدة و"الانفجار الثوري غير المسبوق". اذ لا يمكن لشعب يعتقد أنه خير أمة أنزلت للناس وأنه فلتة زمانه وصاحب التجربة الفريدة من نوعها في تاريخ البشرية أن يكون في الصورة التي يعتقد أنه عليها بينما يقترف كل الخطايا السياسية والاقتصادية الممكنة وغير الممكنة.

كانت كل المؤشرات تشتعل باللون الأحمر منذ البداية، لكن عمى الألوان جعل البلاد تنغمس في كل الاختيارات الخاطئة، بسبب المبالغة في اللعبة السياسوية وجهل مدقع بالمبادئ الاقتصادية الأولية. أصر كل من تقلد حكم البلاد منذ فيفري 2011 على الدور المفرط للدولة الراعية فكان الانتداب العمومي الحل الوحيد للبطالة وكان دعم الاسعار حلا سهلا لمنظومة ابتدعت منذ السبعينات لمنوال اقتصادي تجاوزه التاريخ، تغير العالم وتغير الاقتصاد وتغير الشعب وبقيت المنظومة تراوح مكانها.

كان الغائب الأكبر هو النمو. حيث حققت تونس طيلة عشرية التحول الديمقراطي نسبة نمو بمعدل 1,7% سنويا، دون اعتبار تأثير الجائحة الصحية في سنة 2020 التي اجهزت على الاقتصاد المتداعي. لم تمكن هذه النسبة الضعيفة من خلق الثروة اللازمة لمرافقة التحولات الهيكلية المنشودة بل ربما كانت سببا في الانتكاسات المسجلة سابقا والتي سوف تسجل في المستقبل نظرا لتواصل نفس الظروف.

عجز تونس على خلق الثروة يعود حسب رأيي إلى ثلاثة أسباب أصلية: خطأ في التشخيص وإفراط في التفاؤل وغياب للذكاء الجمعي.

الخطأ في التشخيص

ليس هو خطأ واحد بل عديد الاخطاء المتراكمة، على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. على الصعيد السياسي حصل شبه اجماع من طبقة "القانوسياسيين" على أن الهيكلة القانونية للحكم في البلاد هي السبب في الانحرافات التسلطية التي أدت إلى الثورة  وهذا ما كان سببا في تمشي إعادة التأسيس.

بعض الاصوات الأخرى ذكرت بأن المشكل ليس في النصوص ولكن في من يطبقها ودعت إلى مراجعة محدودة وذكية لدستور 1959 لكن هذه الاصوات البراغماتية لم تكن عالية بما يكفي وطغى عليها صوت هدير الثورة.

على الصعيد الاقتصادي، كان الخطأ الأكبر متمثلا في اعتبار أن الأزمة الاقتصادية في تونس هي أزمة طلب. أدى هذا التشخيص "القاتل" إلى انتهاج سياسة go and stop التي أسفرت على انتفاخ مبالغ فيه لميزانية الدولة وبالتالي لعجز الميزانية وعجز الميزان التجاري والتداين العمومي دون أي أثر على الاستثمار وبالتالي على النمو. لو انتهجت تونس سياسة تعتمد على تطوير العرض لتغير وجه تاريخها الحديث.

على الصعيد الاجتماعي، يبدو أن فهم الهيكلة المجتمعية للتونسيين وموازين القوى فيه لم يكن كما ينبغي. راهن بن علي في سنة 1987 على "درجة وعي" التونسيين كما يراهن فنانو الدرجة الثالثة القادمون من الشرق على ذوقه، فكان هذا الوعي الجمعي صانعا للديكتاتور وكان ذلك الذوق بادرة الانحطاط الاخلاقي الذي تعمق.

الإفراط في التفاءل على قدرة استيعاب المجتمع التونسي للتطورات التي تستوجبها الحرية أدى إلى تصميم منوال غربي منبت، أدى بدوره الى ديمقراطية صورية انبنت على النفعية بدأً وأدت إلى تغلغل الحكم الشعبوي لاحقا.

الافراط في التفاؤل

خلصت بحوث جدية انجزت على الحالة التونسية ما بعد الثورة أن التجربة الديمقراطية في تونس تملك ظروف النجاح إلا أن التونسيين متفائلون بشكل مبالغ فيه في ما يخص الآجال والمجهود الواجب تقديمه.

تذكرنا هذه الفكرة بما تم تداوله في سنوات 2011-2014 بأنها مسألة "عام والا عامين وكل شيء يتصلح". إن التفاؤل عادة حسنة عملا بالحكمة الشريفة "تفاءلوا خيرا تجدوه". الحِكَم تدعو أيضا إلى تجنب الافراط في كل شيء ومنها المثل الشعبي "كثر من العسل يمساط".

من اسباب التفاؤل المفرط سوء فهم درجة تعقد وضعية البلاد فأدى التشخيص الخاطئ إلى استسهال الحلول وتعاملنا مع وضعية معقدة بآليات مُبسَّطة وخَطيّة.

أدى هذا الخطأ في التشخيص إلى التسرع في وضع الخطط وعدم الاهتمام الجيد بالاقتصاد السياسي للتغييرات المنشودة وتبني تمشي يعتمد في غالب الاحيان على الاختصار أو ما يسمى في ثقافتنا "القصة العربي". التسرع مرده أيضا تغليب المصالح الشخصية والحزبية والفئوية الضيقة على المصلحة الوطنية، في غياب كامل للذكاء الجمعي. 

غياب الذكاء الجمعي

ربما يرجع الأمر لعهود الاستبداد التي خلفت تصحرا سياسيا كبيرا، فانعدمت الرؤيا السياسية. تسبب الفراغ السياسي في انعدام القادة الأكفاء أو استقالتهم، وباعتبار ان الطبيعة تأبى الفراغ فإن الساحة السياسية اختلقت لها سياسيين من العدم، سياسيون بدون تجربة وبدون رؤيا وبدون كفاءة وبدون سياسة.

تحولت الساحة السياسية الى حلبة غلبت عليها فكرة مغلوطة أن السياسة جعلت لتصل الى الحكم، بينما السياسة الحقيقية التي غابت عن الجميع تعني أن تحكم وأن تصمم سياسات عامة تجد الحلول لمشاكل البلاد. غياب الذكاء الجمعي مرده أيضا طبيعة التونسي الكارهة للعمل والمتواكلة على معجزات لن تأتي.

غياب الذكاء الجمعي أدى إلى تغليب المصالح الفردية الضيقة، فهل من الضروري التأكيد هنا أن مجموع المصالح الفردية لا يمكن أن يضاهي المصلحة الجمعية؟ وغياب الذكاء الجمعي أدى إلى طرد الكفاءة التي أصبحت معرة وتأكيدًا متواصلا أنه لا نبي في قومه.

نفس الاسباب تؤدي الى نفس النتائج

لنحوصل ما تم تقديمه، نحن نعيش في بلد راكم الأحلام وبالغ فيها دون استعداد حقيقي لتحقيقها، اقترف كل الأخطاء الممكنة التي من أهمها تغليب الربح الآني والمصلحة الفردية فأدى ذلك إلى تفكك لكل المنظومات دون بناء حقيقي لمنظومات جديدة.

وعليه فإن أي محاولة جديدة وجدية للصلاح يجب أن تتعلم من أخطاء الماضي. فإذا كانت الوضعية معقدة فهي تستوجب دمج المسائل السياسية بالاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويصبح من العبث اختصار الأمر في الجانب القانوني فقط ويصبح من العبث المضاعف اعتبار تغيير الدستور حلا لكل المشاكل.

إن ما نعيشه اليوم من محاولة جديدة لإعادة استحضار تجربة التأسيس بنفس التمشي المبني على مبدأ "الصفحة البيضاء" وكل الخيارات السياسية المبنية على طرح قانوني بحت ستؤدي إلى نظام جديد منبت عن الواقع لا يعمل الا في عقول الحالمين به وكل السياسات التي لا تبنى على قراءة براغماتية للواقع واستيعاب للتفاعلات بين مختلف الفاعلين سوف تعمق الأزمة وتخلق آثارا جانبية خطيرة. وسوف يتحمل كل الراكبون على هذه الموجة القانونسياسية تبعات تهافتهم من أجل مصالح ضيقة أو رد فعل طفولي.

والوضع المعقد لا يجب أن يعتبر المجال الاقتصادي مجالًا ثانويا، لأن الثورة التونسية بُنيت على مطالب التشغيل صنوا لمطالب الحرية وفي كلتا الحالتين لا تتحقق الكرامة والبطن جائع ولا تنجح الديمقراطية والناخب "زوالي" في جيبه وعقله.

الحل في عكس الاتجاه

إن استخلاص الدروس من كل الاخطاء السياسية والاقتصادية التي تم اقترافها على مدى اثني عشر سنة هو الحل الوحيد لاستعادة الأمل. لأن الاصرار على إعادة نفس التمشي مع توقع نتائج مغايرة هو الحمق بعينه حسب عبقري الانسانية ألبارت أنشتاين.

وعليه، وجب أولا التخلي على التمشي القانونسياسي إذ لا تتغير الدول بالمراسيم على قول ميشال كروزيي. والاجدر من ذلك اعتماد تمشي عملي يغير النصوص القانونية بدقة ونجاعة دون تقويض غير مجدي لها.

ثانيا، وجب اعتماد تمشي يأخذ بالاعتبار كل الفاعلين والمتدخلين بدون اقصاء وذلك من أجل استيعاب حقيقي لطبيعة المجتمع وامكانياته. وبالرغم من أن مصطلح الحوار الوطني قد تم تمييعه في السنوات الفارطة فإن ذلك لا يعني استبعاد اعتماد منهجية حوار حقيقي وعام يقطع من التعامل الفردي والمصلحي ويؤسس لإطار جديد للذكاء التونسي.

ثالثا، قلب المسار اقتصاديا لأن الحل الاقتصادي في تطوير العرض وليس الطلب وفي اعتماد منوال تنموي ينبني على خلق الثروة لا على توزيع الفقر. يكفي في هذا المجال أن نؤمن بأن الكفاءة هي الحل وأن تونس بنيت بكفاءاتها التي تبقى قادرة على تحقيق المطلوب. ويكفي أن نقتنع أن الكفاءة المهدورة قادرة على الانطلاق في أي فضاء، وعليه فإن الخاسر في تغييب الكفاءات لن يكون إلا الوطن.

رابعا وأخيرا، لقد كانت الوضعية مستعصية منذ سنة 2011، واستعجل الجميع الاصلاحات طلبا لنتائج سريعة وسهلة، لكن المنهجية الصحيحة تقول أن الحل في الحلول الهيكلية التي تستوجب ما تستوجب من جهد وتضحية والحل في الانطلاق الحقيقي في تحقيق هذه الحلول.

إن الحل في استعجال الحلول لا في الحلول المستعجلة.

تم النشر في 03/06/2022

الأكثر قراءة