لغرض التحكم في كتلة الأجور والتقليص من عدد الموظفين، تواصل الحكومة التونسية العمل بصيغة الإحالة على التقاعد المبكر لموظفي الدولة الى افق سنة 2027 وفق ما جاء في قانون المالية لسنة 2025.
مقابل ذلك تطرح هذه المسألة عدة مخاوف من إفراغ الإدارة التونسية من إطارات وكفاءات على دراية كبيرة وواسعة بملفات اقتصادية واجتماعية هامة قد ينتفع منها القطاع الخاص المُقتنص لفرص ثمينة بالنسبة اليه.
وإلى حدود أواخر اوت 2024 غادر حوالي 11.762 موظفا متمتعين بالتقاعد المبكر وحاملين معهم خبرة واسعة بالإدارة التونسية قد يعرضونها على المؤسسات الاقتصادية الخاصة في البلاد من اجل مساعدتهم على تسيير وتسهيل شؤونهم الإدارية.
وصارت الحكومات المتعاقبة في تونس تلجأ منذ عدة سنوات الى عمليات تسريح كبيرة لألاف الموظفين تحت غطاء الإحالة على التقاعد المبكر في خطوة منها للضغط على كتلة الأجور المرتفعة جدا بالمقارنة مع الناتج الداخلي الخام
ولنحو ثماني سنوات يتم التنصيص في كل مشروع الميزانية على عدم اللجوء الى الانتدابات الجديدة في القطاع العمومي باستثناء بعض القطاعات الحساسة والاستراتيجية على غرار الامن والصحة والتعليم.
التمديد في برنامج التقاعد المبكر
تضمّن قانون المالية لسنة 2025 التمديد في برنامج التقاعد المبكر قبل بلوغ السن القانونية لأعوان وموظفي القطاع العام والوظيفة العمومية. وتضمّن الفصل 12 من المشروع مواصلة العمل بأحكام الفصل 14 من قانون المالية لسنة 2022 لفترة زمنية أخرى تمتد من غرة جانفي 2025 إلى غاية 31 ديسمبر 2027 حسب الشروط والصيغ والإجراءات نفسها.
ويعني هذا ان الأعوان والموظفين في القطاع العمومي والوظيفة العمومية الذين بلغوا سن 57 عاما واستوفوا الشروط القانونية بإمكانهم التمتع بالتقاعد المبكر قبل بلوغ السن القانونية المحددة ب 62 عاما.
ويستوجب البرنامج الخصوصي للتقاعد المبكر أن يتمتع المعني بجراية بصفة فورية ابتداء من تاريخ الإحالة على التقاعد وبتنفيل يساوي الفترة المتبقية لبلوغ السن القانونية للإحالة على التقاعد. ويتكفل المشغل بمبالغ الجرايات وكذلك بالمساهمات الاجتماعية المستوجبة طيلة المدة الفاصلة بين تاريخ الإحالة على التقاعد وتاريخ بلوغ السن القانونية للإحالة على التقاعد.
فرصة ثمينة
وعلى الرغم من التردد في بداية تطبيق هذا القرار فان العديد من الموظفين في القطاع العمومي في تونس تجرأوا على المغامرة والتي قد تكون مدروسة لعدد هام منهم بتوظيف ما راكموه من خبرة ودراية بدواليب الإدارة التونسية وعرض هذه الخبرة على القطاع الخاص في البلاد او حتى استقطابهم من بعض الشركات.
ويمثل خروج الاف الموظفين التونسيين على التقاعد المبكر فرصة ذهبية للشركات الخاصة للتمتع أولا وخاصة بحنكتهم في إدارة المسائل الإدارية وتسهيل عمل هذه الشركات وثانيا لن يُشكلوا على الشركات الخاصة أعباء مالية إضافية على مستوى دفع معاليم الضمان الاجتماعي ودفع الضرائب.
هاجس كتلة الاجور
يشار الى ان مشروع ميزانية تونس احصى 663 الفا و757 موظفا حكوميا تونسيا وان جرايتهم تمثل حوالي 40 في المئة من اجمالي الموازنة أي 24 مليار دينار وان الدولة تحرص على التخفيض من كتلة الاور من اجمالي الناتج المحلي الإجمالي الى 13 في المئة.
كما تواصل مختلف الحكومات المتعاقبة في الأعوام الثمانية الأخيرة عدم اللجوء الى الانتدابات المكثفة في القطاع العام لغرض عدم اثقال الموازنة بالأجور التي وصلت في عام 2016 الى مستويات قياسية في علاقة بالناتج المحلي الإجمالي ومن اعلى كتل الأجور في العالم بحسب صندوق النقد الدولي.
العمل أصبح صعبا
ويعتقد مختصون ان العمل في القطاع العمومي صار صعبا في تونس ومضنيا ولم يعد جذابا سيما وان ظروف العمل أصبحت مضنية وان كبار الموظفين أضحوا بطرق سهلة عرضة للمساءلة القضائية في عدد من الملفات ما أرسى مناخا مكبلا لتطوير قدراتهم
ويشكل الفصل 96 من المجلة الجزائية التونسية سيفا مسلطا على الموظفين على الرغم من وعود الحكومة من تعديله في اتجاه إعطاء أكثر حرية للموظفين للتعاطي في بعض الملفات خاصة ذات الطابع المالي والاقتصادي.
ويرى باحثون في المجال ان مواصلة العمل بالبرنامج الخصوصي للإحالة على التقاعد في القطاع العمومي لغرض حل إشكالية كتلة الأجور المرتفعة من شانها ان تؤثر على نجاعة العمل الإداري العمومي الذي يشكو لعدة سنوات العديد من الصعوبات، محذرين أيضا من عملية افراغ للإدارة التونسية من كفاءاتها وخبراتها.
وشددوا على ان الحكومة مدعوة الى مزيد تنظيم أكثر للإحالة على التقاعد في القطاع العمومي لتجنب الانحرافات التي قد تحصل في علاقة بعدد من الملفات الهامة التي قد ينتفع بها القطاع الخاص.
ضعف جراية التقاعد
تظهر احصائيات رسمية ان حواي 70 بالمائة من الموظفين التونسيين الذين خرجوا على التقاعد المبكر او شرف المهنة مثلما يطلق عليه في تونس هم من كبار الموظفين (درجة مدير عام او مدير ورئيس مصلحة) ولهم تكوين علمي مهندسين او علوم قانونية وشهادات عليا في التصرف وراكموا على الأقل خبرة لأكثر من ثلاثة عقود في العمل الإداري ولهم دراية بأدق تفاصيل العمل الاداري.
ومن ضمن عوامل طلب الاحالة على التقاعد لعدد هام من الموظفين في تونس ضعف جراية التقاعد ما يجعل عدد لا بأس به منهم يبحثون عن شغل إثر مغادرة العمل الحكومي وهي مسالة صارت تجلب اهتمام كبرى الشركات الخاصة في تونس للانتفاع بخبراتهم.
في غضون ذلك صارت هذه الوضعية محفزة جدا للشركات الخاصة في تونس على الاتصال مباشرة بهؤلاء الموظفين المحالين على التقاعد وعرض عليهم عقود شغل برواتب مجزية لأجل الانتفاع بخبرتهم والمامهم الدقيق بالمسائل والتفاصيل الإدارية التي تغفل عن القطاع الخاص سيما في تسهيل الإجراءات والتواصل مع زملائهم المباشرين في القطاع الحكومي.
مسالة أخرى وجب الانتباه اليها في هذا الملف وهو ان العديد من كبار الموظفين الذين غادروا العمل في القطاع الحكومي لديهم دراية هامة في علاقة بمشاريع اقتصادية هامة يمكن ان يهتم بها القطاع الخاص وينتفع بها.
فائدة للجانبين
ويعتبر بعض المختصين ان الإحالة على التقاعد المبكر للموظفين في تونس لا يمكن تناولها من زاوية سلبية فقط، اذ ان الشركات الخاصة سوف تنتفع بدورها من مهارات موظفي القطاع العمومي عند الاشتغال عندهم بما يحسن من جودة انجاز المشاريع من جهة وخاصة بقاء هذه الكفاءات في داخل البلاد ولن تهاجر من جهة أخرى.
كما أشاروا الى ان اشتغال كبار الموظفين الحكوميين في القطاع الخاص سوف يحسن من العلاقة بين الطرفين من خلال إمكانية ان يكون الموظفين الحكوميين العاملين في القطاع الخاص كمخاطب وحيد مع الإدارة التونسية التي تتطلب دراية ومعرفة خصوصية من اجل تسريع الإجراءات الإدارية لا سيما في المجال الاستثماري.
وخلصوا الى انه لا يجب تهويل المسالة الى درجة افراغ الإدارة التونسية مبرزا ان هناك لجان تعمل على مستوى كل وزارة لدراسة طلبات الإحالة على التقاعد المبكر وان هذه اللجان بإمكانها رفض طلب التقاعد المبكر نظرا لحاجة الإدارة لنوعية معينة من المسؤولين الاكفاء.
تم النشر في 12/12/2024