تكرر سنويا خبر نجاح الاطباء التونسيين في امتحانات التنظير في الدول الاوروبية حتى أصبح خبرا عاديا تتداوله الصفحات الاخبارية دون كثير من القلق. وإن عبر البعض على سخطهم من الوتيرة التي اصبحت تفقد بها منظومة الصحة الوطنية كفاءاتها، ففقد اعتبر البعض الآخر أن الخسارة ليست ذات البال، أملا في تعويض المغادرين بالمتخرجين الجدد.
بل أن أكثر المحللين ثقة في النفس يعولون على عودة المغادرين بعد سنوات، محملين بالتجربة والثروة. في انتظار أن يتدرب المستجدون ويعود المغادرون، تونس وأبناؤها لهم الله ودعاء الأمهات، بالصحة وطول العمر.
إن هجرة الأطباء ليست جديدة في تونس، كغيرها من الدول التي تتحسس طريقها للنمو وتحقيق كرامة العيش لمواطنيها، فلا هي اهتدت لطريق التطور ولا أفلحت في المحافظة على الكفاءات التي تمكنها من الاهتداء إليه. ومنذ أن تفاقمت الوضعية بعد "ثورة الكرامة"، أصبحت خسارة تونس لأطبائها بالمئات، لتصل في سنة 2020 وحدها إلى حوالي 500 طبيب، بينما تم الاعلان على نجاح حوالي 900 طبيب تونسي في امتحان القبول في فرنسا في سنة 2021، والنسق مازال تصاعديا.
ولعل ما يستدعي اهتماما مضاعفا، هو تهافت الاطباء من غير المستجدين على الهجرة، فنجد منهم المختص وصاحب الخبرة ورئيس القسم. وكأن الكل أجمع أن لا منزل اليوم للطبيب التونسي بين أهله. تملك تونس 6500 طبيب عام يعني 57 طبيب على كل 100 الف ساكن، وتملك 8400 طبيب مختص، 3200 منهم يشتغلون في قطاع الصحة العمومية و5200 في القطاع الخاص، أي 72 طبيب مختص لكل 100 الف ساكن.
في المحصلة فإن تونس، التي لا تعرف كيف تحافظ على أطبائها، تملك 1,3 طبيبا لكل ألف ساكن، بينما تحتوى فرنسا اللتي تعمل على استقطابهم على 3,2 طبيب لكل ألف ساكن. أي منطق إذن ينتهجه البعض ممن يعتبرون أن هجرة الأطباء التونسيين فرصة ؟ فرصة لمن والحال أن تونس تسجل مؤشرا أضعف بكثير من دول الشمال الثرية بالكفاءات والتي تبحث عن المزيد. وأين نحن من بلد مثل كوبا الذي يملك 8,4 طبيبا لكل ألف ساكن؟ لقد أثبتت مدرسة تونس للطب على مدى عقود تميزها مما جعل الطب أحد المجالات الجالبة للاستثمار ومما جعل من تونس قبلة للسياحة الطبية التي توفر إمكانيات واعدة للتطوير.
يأتي الناس بمئات الآلاف سنويا من دول عديدة مثل ليبيا والجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر وكوت ديفوار، فيدرون العملة الصعبة ويحركون الحياة الاقتصادية في النزل والمطاعم وشركات الخدمات والنقل وغيرها. ويمكن لتونس لو تعمل على هذا المجال بجد وحنكة، أن تستقطب طالبي الخدمات الصحية من عديد الدول الأخرى من القارة الافريقية بل وأيضا من أوروبا. كل هذا لم يمكن ليحصل لو لم يكن الأطباء التونسيون ذوي كفاءة. هم الثروة وقاعدة أي تطوير للقطاع.
فإذا أصبحت هذه الكفاءات تهجر البلاد، فهو لعمري دليل على مخاطر قادمة. أول هذه المخاطر تدهور مستوى القطاع الصحي، يدفع ثمنه المواطن التونسي الذي سوف يجد نفسه دون ما يستحق من خدمات، وفي أحسن الحالات سوف نتقهقر بسياستنا الصحية نحو البحث عن أطباء منتدبين من مستوى أدنى مثلما كان هو الحال في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، عندما كانت المستشفيات التونسية تشتغل بالأطباء الصينين ومن أوروبا الشرقية.
كيف يمكن اليوم مسك الكفاءات التونسية؟ لن ينفع في ذلك الزجر ولا العراقيل القانونية. هكذا هو النظام العالمي الجديد: حدود مفتوحة وحرية للتنقل وتثمين للكفاءات تجعل من زخم التنقلات مؤشرا على تطور الدول. إن الحل هو في معالجة المشكل من أساسه، فإذا كانت الكفاءات تبحث على تحسين ظروف عيشها فلا مناص من العمل على أن تكون السوق التونسية سوق جذب وتثمين.
لا مناص إذن من انفتاح حقيق على سوق الشغل العالمية، وترفيع محسوس في الامتيازات الممنوحة. لقد تغير النظام العالمي وتونس مازالت تراوح مكانها، وهي اليوم أمام خيارين: إما الإصرار على منوال متجمد يحتكم إلى إجراءات إدارية بالية وعقلية شعبوية تعتقد في تسطيح الكفاءات، وإما الانخراط في لعبة العرض والطلب العالمية، تصبح فيها الكفاءة صيدا ثمينا توضع من أجله السياسات وتفتح له المناصب بالشروط العالمية.
فإذا كان لنا من الذكاء الجمعي نصيب، فسوف تكون للمستشفيات استقلاليتها الحقيقية، وسياستها العامة التي يشرف عليها مجلس إدارة أعضاؤهم مقتدرون ومسؤولون وميزانية لها في الموارد الذاتية نصيب أوفر.
هذا رأي للنقاش، اتخذت فيه وضع القطاع الصحة كمثال، ويجدر أن يتم تعميمه على كل القطاعات الاخرى وكل الكفاءات مثل التعليم العالي والهندسة والدراسات الفنية بأنواعها، هدفي فيه الوحيد أن تتبوأ تونس المكانة التي تستحقها وهي بدون شك قادرة على الريادة.
أنيس الوهابي
تم النشر في 27/07/2021