بات جليا أن ارتفاع نسبة التضخم في تونس إلى مستوى 9.8 بالمائة في شهر نوفمبر الفارط، يترجم الصعوبة التي تجدها الحكومة عبر أجهزتها على التحكم في الأسعار الملتهبة والتي أحرقت القدرة الشرائية والاستهلاكية لعموم التونسيين.
لا يكاد يمر يوم في تونس حتى تحصل زيادة جديدة في أسعار المنتوجات أو المواد الأساسية أو ترفيع في أسعار الخدمات تحت ضغط المهنيين، ليجد المواطن التونسي نفسه أسيرا لصراع محتدم بين مطالب الفلاحين والصناعيين في وجوب الزيادة في أسعار المتوجات الفلاحية والمصنعة والحكومة العاجزة عن كبح جماح الأسعار.
وفي ظل غياب شبه كلي لدور وضغط المنظمات والجمعيات المدافعة عن المستهلكين، تواصل أسعار جميع المنتوجات والخدمات صعودها بشكل صاروخي وتوشك على القضاء على النزر الضئيل المتبقي من القدرة الشرائية والاستهلاكية لأغلب التونسيين.
زيادات متواترة
مع كل إعلان أو اتفاق رسمي بين المهن والقطاعات الإنتاجية مع الحكومة او الوزارات على الترفيع في أسعار المنتجات، الا وتليها موجة من زيادات تكاد تكون اعتباطية وغبير مدروسة من طرف قطاعات أخرى. وقد تواترت زيادة الاسعار في تونس بشكل لافت الى مستوى جنوني لم يعد المواطن مجاراته، ليقف عاجزا عن الإيفاء بالتزاماته الغذائية خاصة.
ولم يمض أسبوعين عن إعلان الحكومة زيادة أسعار المواد البترولية للمرة الخامسة منذ بداية العام، حتى انتفض قطاع النقل ليطالب بدوره بإقرار زيادات في تعريفات النقل في خطوة توقعها المواطنون والمختصون بان زيادة أسعار المحروقات سيكون لها تأثير مباشر على زيادات في أسعار العديد من المجالات والمنتوجات المرتبطة بالمحروقات.
نسق صعود الأسعار سيتواصل
يُجمع عدد من المختصين والعارفين بالشأن الاستهلاكي أن نسق صعود الأسعار في تونس سيتواصل في الأشهر القادمة ما سيؤثر على نسبة التضخم المرتفعة. ويؤكدون انه في حال استمرار النزاع الروسي الاوكراني وتواصل تراجع سعر صرف الدينار فإن الأوضاع ستزداد تعكرا بارتفاع فاتورة توريد المواد الأساسية والمحروقات الامر الذي سيزيد زيادة ملحوظة أثمان جل المنتوجات.
زد على ذلك التزامات الحكومة الحالية مع صندوق النقد الدولي بالعمل على رفع الدعم ولا سيما دعم المحروقات والكهرباء والشروع في اصلاح منظومة دعم المواد الغذائية الأساسية فإن لهيب الأسعار سيتطور بأشكال مخيفة وقد تكون له تداعيات وخيمة على المناخ الاجتماعي وتسجيل اضطرابات اجتماعية ستؤثر حتما على مناخ الاعمال في البلاد.
ويسجل الدينار التونسي تراجعا متواصلا منذ أشهر مقابل الدولار. ووفق بيانات البنك المركزي التونسي، تراجع الدينار إلى مستوى قياسي جديد مقابل الدولار الأميركي، حيث بلغ سعر الدينار التونسي 3.3 مقابل الدولار الواحد. كما وصلت نسبة التضخم اعلى مستوى لها في السنوات الثلاث الأخيرة إلى مستوى 9.8 في المئة في نوفمبر مع زيادة في تضخم أسعار المواد الغذائية برقمين.
وكشف المعهد الوطني للإحصاء ، أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت باحتساب الانزلاق السنوي بنسبة 15.1 بالمائة ويعود ذلك بالأساس إلى ارتفاع أسعار البيض بنسبة 43.4 بالمائة وأسعار الخضر الطازجة بنسبة 32.4 بالمائة وأسعار لحم الضأن بنسبة 24.3 بالمائة وأسعار الزيوت الغذائية بنسبة 20.4 بالمائة ولحم البقر بنسبة 17.4 بالمائة.
من الصعب الخروج من هذه الدوامة
ويقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية رضا الشكندالي إن "موضوع القدرة الشرائية للتونسيين يعد ملفاً حارقاً ومهماً، انطلاقاً من أن المؤشرات تدل على اهتراء القدرة الاستهلاكية للتونسيين".
ولفت إلى أن "متوسط الدخل الفردي الشهري للتونسي تراجع من معدل 345 دولاراً سنة 2010 إلى 275 دولاراً حالياً، قابله ارتفاع غير مسبوقلأسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، لم تقدر الحكومات المتعاقبة بعد الثورة على كبح جماح هذا الارتفاع".
ويعتبر أن "نسبة الضغط الجبائي التي وصلت إلى أكثر من 25 في المئة حالياً، انعكست سلباً على المؤسسات الاقتصادية التي اضطرت إلى توسيع هامش ربحها لمجابهة تكاليف الضغط الجبائي، ما انعكس على الأسعار".
وإذ ينتقد تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي يقول إن "تدهور الخدمات الصحية والنقل العمومي جعل العديد من التونسيين يحولون وجهتهم نحو المستشفيات الخاصة والنقل الخاص، وما نجم عنه من ارتفاع كلفة التداوي في تونس علاوة على هروب العديد من العائلات إلى مؤسسات التعليم الخاصة مع تراجع مستوى التعليم العمومي".
ويخلص الشكندالي إلى أن المواطن التونسي لم يعد قادراً على مجاراة نسق الحياة المرتفع ولجوئه إلى الاقتراض من البنوك أو من جهات أخرى والدخول في دوامة من الصعب الخروج منها.
اداءات ستزيد من أسعار الخدمات
تضمن مشروع قانون المالية لعام 2023 الذي تعده وزارة المالية التونسية بعض الإجراءات الضريبية تخص المهن الحرة او الغير تجارية على المحاماة والطب والتداوي والهندسة المعمارية والمحاسبات من خلال ترفيع في الأداء على القيمة المضافة من 13 في المئة حاليا الى 19 في المئة في المشروع المطروح.
اجراء رفضته المنظمات المهنية لهذه القطاعات، "لما في ذلك من إثقال لكاهل المواطنين والمتقاضين والمؤسسات وطالبي الخدمات القانونية وحدا من مبدأ الحق في النفاذ للعدالة واخلالا بمبدأ المساواة والعدالة الجبائية.
وحذّرت هذه المنظمات من التداعيات الاجتماعية التي قد تنجم عن سياسات الحكومة القائمة على اعتماد الترفيع في نسبة الاداءات الموظفة على المواطنين وصغار التجار والمهن الحرة ومزيد الضغط الجبائي، مشدّدة على رفضها التام لسياسة الحكومة في رفع الدعم والسعي غير المدروس للتفويت في المؤسسات العمومية والترفيع في سعر المحروقات والمواد الاستهلاكية المعاشية والخدمات مما يؤثر على المقدرة الشرائية للمواطنين.
حركة الأسعار تزداد أسبوعياً
واعتبر لطفي الرياحي رئيس "المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك" (مستقلة) أن "حركة الأسعار في تونس تزداد أسبوعيا، في ظل غياب مراقبة الأسعار من طرف أجهزة الدولة".
ولفت في تصريح "للبورصة عربي" إلى أن "أسعار مادة الزيت النباتي المكرر المعبأ تزيد أسبوعيا، في ظل انعدام مادة الزيت المدعوم من الأسواق"، مشيراً إلى أن "المساحات التجارية الكبرى تسهم في زيادة الأسعار"، ويستدل على ذلك بأن "هامش ربحها يصل إلى نحو 70 بالمائة".
واستغرب صمت الحكومة عن هذا النسق التصاعدي وعجزها عن التحكم في هيكلة الأسعار بداية من الإنتاج الى المساحات والفضاءات التجارية، ما يغذي تصاعد المضاربات.
مستوى أسعار مقبول
وقالت وزيرة الجارة فضيلة الرابحي في تصريح إعلامي إن ارتفاع نسبة التضخم والأسعار في تونس يعد مقبولا مقارنة ببلدان أخرى. وأوضحت أن ”نسبة التضخم المسجلة في تونس 9.8 بالمائة هي أقل مما تم تسجيله في عديد د كل حاجياتها من بلدان العالم على غرار أوروبا التي تجاوزت نسبة 10 بالمائة خاصة أن تونس توّر الخارج لذلك نسبة التضخم الموردة كبيرة لأن الأسعار العالمية سجلت ارتفاعا وكلفة الشحن كذلك تضاعفت 7 مرات في عديد القطاعات وكذلك سعر الصرف“
وتابعت الرابحي تفسيرها بالقول " نحن في سياق عالمي وال يمكن حل هذه الإشكاليات إلا بالعودة إلى العمل والإنتاج وتدعيم التصدير وخلق الثروة والتقليص من الكلفة". وأردفت وزيرة التجارة أن ارتفاع الأسعار في تونس يعتبر مقبولا مقارنة ببلدان أخرى نظرا لكون المدخلات الأخرى جلها موّردة مثل الحبوب والزيوت النباتية ولعلاف وبقية المواد الأولية، مضيفة د ونسعى للتحكم فيه عبر عديد الآليات من أجل تعديل السوق.
مهدي الزغلامي
تم النشر في 07/12/2022