عاود الجدل المحتدم في تونس بخصوص التفويت في الشركات العمومية البروز على الساحة الاقتصادية والسياسية في البلاد بتصريحات نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل التي كشف فيها عن مخطط حكومة نجلاء بودن الشروع في خوصصة او التفويت في 3 شركات حكومية وهي بنك الإسكان ووكالة التبغ والوقيد وأجزاء من أكبر ميناء في تونس.
تصريحات اعادت النقاش الحاد منذ ما لا يقل عن عشرة أعوام بخصوص ملف خوصصة المؤسسات العمومية و سيما عبر التفويت فيها وخاصة الشركات التي تعرف صعوبات مالية جمة وان ميزانية البلاد لم تعد قادرة على ضخ الأموال لمواصلة نشاطها.
ولئن تعالت أصوات المختصين وأساتذة الاقتصاد وعدد من الأحزاب السياسية بوجوب انهاء هذا الملف الذي أرهق جل الحكومات المتعاقبة بعد 2011، فان وضعية هذه الشركات زادت سوءا وأضحت عبئا ثقيلا على موازنة تونس في ظل اعتبار اتحاد الشغل التفويت فيها خطا حمرا في مرحلة أولى ثم انفتاحه بإصلاحها حالة بحالة في مرحلة ثانية.
صُداع مزمن
يمثل إصلاح المؤسسات العمومية في تونس صداعاً مزمناً في رأس الحكومات المتعاقبة ، ويعد من أهم الملفات المتشعبة التي تخوض فيها حواراً مزدوجاً؛ الأول مع الاتحاد العام التونسي للشغل، والثاني مع صندوق النقد الدولي، إذ عبر الأول عن تحفظه الشديد تجاه هذا الأمر؛ بسبب ما وصفه بنية التفويت في الشركات المملوكة من الدولة ، بينما يشترط الصندوق إجراء إصلاحات للحصول على برنامج تمويلي جديد.
نجلاء بودن، رئيسة الحكومة التونسية، قالت في ماي 2022 إنه لا نية في التفويت بالمؤسسات العمومية، وأنها ستحظى ببرنامج إصلاح هيكلي؛ لكنها أشارت إلى المؤسسات ذات الطابع الاستراتيجي التي ستخضع إلى عمليات إعادة تدقيق، بعد أن بات من الضروري إصلاحها؛ لدورها المحوري في تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة.
وتحصلت تونس في منتصف أكتوبر (على اتفاق مبدئي على مستوى الخبراء بصندوق النقد الدولي بقرض بقيمة 1.9 مليار دولار يسدد على أربع سنوات شريطة التزام الحكومة الحالية بجملة من الإصلاحات الجوهرية في مقدمتها اصلاح للشركات العمومية.
ويرى المتابعون ان حصول تونس على القرض جاء إثر تهد الحكومة بالقيام بإجراءات واصلاحات قوية والمرور الى التطبيق الفعلي في برنامج الإصلاحات ولعل قرار الحكومة فتح راس مال شركة الفولاذ ب 60 بالمائة يعد إشارة في هذا الصدد.
رفض وصمود
قال الامين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، إن الحكومة تعهدت لصندوق النقد الدولي بالتفويت في بنك الاسكان ووكالة التبغ والوقيد وبعض الأرصفة من ميناء رادس.
واتهم الطبوبي في تصريح اعلامي الحكومة بـ"المغالطة" في علاقة بملفي التفويت ورفع الدعم، مشددا أن الاتحاد "سيواصل نضاله ضد برنامج الحكومة الخاص بالملفين المذكورين" وأن ذلك يعتبر "معركة مجتمعية بالنسبة للمنظمة".
وكشف أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي ان رئيس الجمهورية إكد له تأكيده أمس في لقائه رئيسة الحكومة على أنه لا مساس بمؤسسات القطاع العامو وعبر الطبوبي عن أمله في ان يكون ذلك قناعة راسخة لدى رئيس الجمهورية.
واعتبر الطبوبي ان تصريح رئيس الجمهورية حسم الموقف بخصوص التفويت في المؤسسات العمومية مشيرا الى تصريحات بعض اعضاء الحكومة حول بعض الشركات الاستراتيجية وغير الاستراتيجية بما ادخل لخطبة في الاذهان وفق قوله.
وطالب الطبوبي الحكومة بوضع ملف اصلاح الدعم واصلاح المؤسسات العمومية على الطاولة مشددا على ان الاتحاد منفتح على الاصلاح شريطة ان يتم النظر في ملفات المؤسسات العمومية حالة بحالة. وجاء تصريح أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي خلال تجمع عمالي للاتحاد الجهوي للشغل بتونس ونقابة التبغ والوقيد في مقر شركة التبغ والوقيد بالعاصمة أكد فيه أن الاتحاد لا يضع سبعين خطا أحمر بل يضع مليون خط أحمر أمام نوايا التفويت في المؤسسات العمومية.
تصريح الهب الجدل
ما ألهب الجدل والتصعيد في ملف خصخصة الشركات الحكومية، تصريح مديرة صندوق النقد الدولي التي كشفت ان الحكومة التونسية هي من أبدت رغبتها في عملية التفويت وان الامر لم يكن مفروضا من الصندوق.
وأقرت مديرة صندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا بان الاتفاق مع تونس كان "نقطة المضيئة"، مؤكدة أن" تونس استحقت هذا القرض بفضل برنامجها واشارت جورجيفا في لقاء خاص مع قناة سكاي نيوز عربية، الى أنهم كانوا يتطلعون إلى ان تعمل تونس على خصخصة بعض المؤسسات لكن المبادرة جاءت من الجانب التونسي، حيث أبدى رغبته في خصخصة بعض المؤسسات العمومية.
مديونية مفرطة
تنامت مديونية الشركات الحكومية (111 مؤسسة) بنسبة 8.2 في المئة في الفترة الممتدة بين 2018 و2020 وفق ما افصحت عنه وزارة المالية، بسبب تفاقم العجز المالي في ثلاث مؤسسات: الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، وشركة نقل تونس، وشركة الخطوط التونسية.
وتعد الشركات الثلاث مسؤولة عما يقارب 71 في المئة من هذه الزيادة، حيث بلغت ديون الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية 180 مليون دينار وشركة نقل تونس 107 ملايين دينار والخطوط التونسية 64 مليون دينار. وتمثل الديون الجبائية بمفردها 41 في المئة من الديون المستحقة على المؤسسات العمومية للدولة، إذ بلغت 2.7 مليار عام 2020.
وعلاوة على ذلك ارتفعت مديونية المؤسسات العمومية إلى 6.5 مليار دينار في 2020 بزيادة 8.2 في المئة مقارنة بستة مليارات دينار في 2019.
الشروع في تفويت الشركات ذات المساهمات الضعيفة
يقترح رضا الشكندالي استاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية أن يقع ضمن مشروع قانون المالية لسنة 2023 اقرار اجراءات بالنسبة إلى المؤسسات العمومية تتمثل في التفويت في المؤسسات ذات المساهمة الضعيفة جدا للدولة.
أما بالنسبة إلى المؤسسات الاستراتيجية الاخرى فيقترح شكندالي اعادة حوكمتها لتحسين جودة خدماتها حتى تكون المؤسسة في أفضل حالاتها الاقتصادية وتدر الأرباح إن وقع التفكير في خصخصتها بعد ذلك أو في بيع جزء منها.
على الحكومة الإفصاح عن مخطط الاصلاح
وانتقد الشكندالي بشدة تكتم الحكومة على برنامج إصلاح المؤسسات الحكومية ما اثار مخاوف الاتحاد العام التونسي للشغل، مؤكداً أن الانشغال بشأن مصير آلاف الموظفين قد يدفع النقابات إلى الاحتجاج ويهدد السلم الاجتماعي.
وقال إن بيع أصول الشركات العمومية يجب أن يكون مصحوباً ببرنامج يضمن حقوق الموظفين، سواء بالاتفاق مع المشتري على تعويضهم مالياً أو عدم تسريحهم أو إعادة تشغيلهم في مؤسسات أخرى، لافتاً إلى أن النقابات ستلجأ إلى كل الوسائل من أجل الدفاع عن حقوق منظوريها.
وأضاف أن غياب هذه الضمانات وعدم التفاوض مع الاتحاد العام التونسي للشغل بشأن خطة التفويت قد يقوّض عملية الإصلاح برمتها. ووفق الشكندالي فإن إدارة السلطات لملف المؤسسات الحكومية يتضمن العديد من الأخطاء، ومنها اختيار المؤسسات المزمع بيعها وطريقة التفويت فيها، معتبراً أنه من غير المجزي بيع أصول مؤسسات تعاني من صعوبات مالية وسوء حوكمة.
وأضاف أن بنك الإسكان الذي تنوي الحكومة التفويت في أصوله يحقق أرباحاً جيدة بعد عملية الهيكلة التي خضع لها عام 2017، في المقابل تواصل تونس الاحتفاظ بمؤسسات أخرى تتلقى دعماً حكومياً ما يثقل كاهل المالية العامة. تجدر الملاحظة في هذا الصدد ان وزيرة المالية سهام نمصية بوغديري كانت قد نفت في حوار تلفزي لقناة التاسعة الخاصة التفويت في بنك الإسكان.
لا يحق لاتحاد الشغل أن يأخذ المؤسسات العمومية رهينةً
ويعتبر عدد من المختصين انه " لا يحق للمنظمة الشغيلة أن تأخذ المؤسسات العمومية رهينةً بين يديها"، مشددا على أن هذه المؤسسات هي ملك للدولة وليس للاتحاد".
وأكدوا ان التفويت ليس عيبا إذا ما تمت بطريقة مدروسة وهي إجراء معمول به في كل بلدان العالم مشددين على ضرورة بيع بعض المؤسسات المفلسة التي تكبد الدولة خسائر فادحة
اجمالا يتواصل نزيف الخسائر الذي يتكبده الاقتصاد التونسي في ظل غياب التوافق بين الحكومة والأطراف الاجتماعية فيما يخص الملفات الاقتصادية الحارقة من ضمنها التفويت في الشركات الحكومية الذي تظل "ضرسا متسوسا" ينخر التوازنات المالية.
مهدي الزغلامي
تم النشر في 11/11/2022