version française ilboursa

تنقيح مجلة الشغل : بين مقتضيات الثورة التشريعية والتداعيات الاقتصادية

 

شكَل إفصاح الحكومة عن مقترح تعديل مجلة الشغل لا سيما في جوانب عقود المناولة بإلغائها الى درجة تجرمها الحدث الاجتماعي والاقتصادي البارز في البلاد في أواخر الاسبوع الفارط، مخلفا جدلا واسعا في البلاد بين مرحب بالتنقيح وبين متحفظ بشأن التداعيات الاقتصادية لهكذا تنقيح.

ويمكن اعتبار التنقيح الجوهري لمجلة الشغل في تونس أولى بوادر الثورة التشريعية التي لطالما ألحَ الرئيس قيس سعيد على تنزيلها على ارض الواقع وتعهده بالتوجه الاجتماعي للدولة منذ حصوله على ثقة التونسيين في الانتخابات الرئاسية في اكتوبر 2024

ووفق مقترح تعديل مجلة الشغل في تونس يبدو أن سوق الشغل مقبلة على تغييرات عميقة وجذرية في البلاد للمُشغَل وللأجير على حد السواء من خلال بشكل منع وتجريم مناولة اليد العاملة مع الحد من استخدام العقود محددة المدة وإلزام المشغلين بتسوية الوضعية المهنية للعاملين وفق هذه الصيغة.

ولئن استبشر العمال الخاضعين لعقود عمل مناولة بهكذا قرار فان ارباب العمل سيجدون أنفسهم امام وضعية جديدة لم يتعودوا عليها في العقود الأخيرة بوجوب تسوية وضعية عمال كانوا انتدبوهم بعقود عمل محددة في الزمن لمهمات محددة، ما قد يؤثر على الوضعية المالية لشركاتهم وفقدان المرونة في التشغيل التي كانوا يتمتعون بها قبل مقترح تعديل المجلة بإنهاء عقود المناولة.

نتائج عكسية؟

كما ان تفعيل مقتضيات تنقيح مجلة الشغل وإلغاء عقود المناولة وتجريمها بحسب المختصين قد يؤدي الى نتائج عكسية على غرار ما حصل مع قانون الشيكات الجديد من خلال ارباك أكثر لسوق الشغل وعزوف أصحاب الشركات والوحدات الصناعية عن الانتدابات مرجحين ان تعرف الوضعية موجة من تسريح العمال وارتفاع نسب البطالة مع توقف التوظيف نتيجة تخوف ارباب العمل من مقتضيات وضوابط مجلة الشغل الجديدة.

مسالة أخرى وجب التأكيد عليها في علاقة بتنافسية المؤسسات الاقتصادية و لا سيما الشركات الأجنبية المنتصبة في البلاد التي تنتدب الاف العمال بصيغة عقود المناولة او العقود المحددة في الزمن لأجل القيام بمهمات محددة تحتاجها هه الشركات الأجنبية. وحالياً، يمنح قانون الشغل إمكانات واسعة للمشغلين باستعمال آليات للتشغيل الهش التي لا تحمي حقوق العمال بالقدر الكافي في القطاعين الحكومي والخاص.

ضرورة القطع مع الماضي

وأشرف رئيس الجمهورية قيس سعيّد الخميس الفارط على اجتماع مجلس الوزراء تداول خاصة في مشروع قانون يتعلق بتنقيح بعض أحكام مجلة الشغل. وتم النظر في منع مناولة اليد العاملة وتجريمها مع حفظ حقوق من تم انهاء عقود شغلهم معيّنة المدة ومن تم فسخ عقود مناولتهم ابتداء من 6 مارس 2024 لحرمانهم من الانتفاع بالأحكام الجديدة التي سبق لرئيس الجمهورية أن أعلن عنها لأول مرة في التاريخ المذكور.

 وشدّد رئيس الدولة على ضرورة القطع مع الماضي البغيض، مضيفا ان مجلة الشغل وقع تنقيحها في مناسبتين خلال سنتي 1994 و1996 مضيفا قوله "لقد قام النظام القانوني في تلك الفترة، على ما يشبه نظام العبودية او على نوع من الرق "

 ولفت، الى انه بعد الاعلان عن التخلي عن المناولة في مارس 2024، وقعت تجاوزات وممارسات تمثلت في وضع حد للعقود المحددة بزمن أو رفت بعض العمال.

وأكد أن حقوق العمال والمتعاقدين ليست موضع مساومة مؤكدا أن القانون سيكون في مجابهة أي تجاوز قائلا "نحن نحمل الأمانة وحينما نعد فإننا نفي بالعهد، لا بنصف العهد او بنصف الوعد، وان الدولة ستتخذ كل الاجراءات اللازمة لتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حقوق كل التونسيين"

مضمون التنقيح

وسيتم بمقتضى مشروع القانون الجديد إجراء تعديلات على بنود مجلة الشغل بما ينهي كل أشكال التوظيف بصيغة مناولة اليد العاملة، إلى جانب تحديد مدة التجربة عند الانتداب بمدة لا تتجاوز ستة أشهر وقابلة للتجديد مرة واحدة ولنفس المدة.

ووفق مقتضيات مشروع القانون الجديد، سيتم إلغاء العمل بمبدأ مناولة اليد العاملة، الذي كان يسمح بإبرام عقود بين مؤسسات مؤجرة لليد العاملة ومؤسسات مستفيدة، على أن يتم تجريم كل مشغل يبرم عقدا يهدف إلى تشغيل الأجراء عبر مؤسسة وسيطة غير قانوني، ويعرّض كلا من المؤسسة المشغّلة والمستفيدة لعقوبات مالية وحتى عقوبات بالسجن مع منع إبرام عقود العمل لمدة معينة في غير الحالات الاستثنائية المتمثلة في القيام بأعمال.

وبحسب مشروع القانون الذي سيحال على البرلمان، سيتم فرض تحويل جميع عقود الشغل محددة المدة، إلى عقود غير محددة المدة تلقائياً، دون الحاجة إلى إبرام عقد جديد أو انتظار انتهاء العقد السابق. وبموجب الأحكام الجديدة، يُعتبر جميع العمال الذين كانوا يشتغلون في إطار مناولة اليد العاملة عمالاً ثابتين في المؤسسة المستفيدة من خدماتهم، اعتباراً من تاريخ دخول القانون حيز التنفيذ.

ويشكو آلاف العمال التونسيين في القطاعين العمومي والخاص من هشاشة العمل وضعف الاجور نتيجة اعتماد عقود العمل لا تمكنهم من تحصيل حقوقهم المادية والمهنية، فضلا عن تصاعد نسبة البطالة التي بلغت 16 بالمائة وفق معهد الإحصاء نهاية الثلاثي الثالث من سنة 2024.

تفكير اداري بحت

ويرى فوزي عبد الرحمان وزير التشغيل السابق أن التعديلات الجديدة التي يُتوقع إجراؤها في قانون العمل صيغت بفكر قانوني وإداري بحت ولا تنتمي للعقل الاقتصادي، مرجحين أن يتسبب ذلك في زيادة نسب البطالة وموجات تسريح العمال.

واعتبر في تصريحات إعلامية فورية أن القاعدة العامة في سياسة التوظيف هي إضفاء المرونة على سوق الشغل لجعلها أكثر قدرة على النشاط واستيعاب طالبي الشغل، بينما يفضي التضييق إلى مزيد غلق منافذ سوق التشغيل، بحسب اعتقاده.

وأقر بالمقابل أن قانون الشغل الجاري به العمل حالياً يتضمن العديد من الثغرات التي تتسبب في استغلال العمال وانتهاك حقوقهم، مؤكدين أن معالجة هذه الثغرات تتم عبر تحسين أداء أجهزة المراقبة والقضاء المتخصص.

وعن إلغاء صيغة العمل بعقود المناولة والاتجاه نحو تجريمها، يعتقد المتحدث أن المؤسسات الاقتصادية تلجأ عموما إلى المناولة والاستعانة بمؤسسات خدماتية لإدارة الاعمال الجانبية بهدف تحسين التركيز على تخصصاتها الاقتصادية وتنمية قدراتها التنافسية في السوق.

تنقيح تقدمي

ومن جانبه يرى حافظ العموري الأستاذ الجامعي المختص في قانون الشغل أن تنقيح مجلة الشغل تقدمي، ذلك أنه تجاوز أحدث التشريعات والقوانين المنظمة للشغل، كما قضى بموجب أحكامه على إمكانية التعاقد بين المؤجرين والعمال لفترة محدودة من الزمن مع استثناءات محدودة جدًا، مثل الأعمال الموسمية أو المؤقتة.

واعتبر في تصريح اعلامي ان التنقيح الجديد قد وجه ضربة قاضية للعقود محدودة الزمن، لينهي العمل بها، إذ يمكن لشركات نشأت في ظل عقود من الفراغ التشريعي أن تستأنف نشاطها بصيغة جديدة تحت يافطة مؤسسات إسداء الخدمات.

ويتعلق الأمر، على سبيل المثال، بشركات الصيانة والحراسة والتموين، ويشمل بالخصوص كل المؤسسات التي تسدي خدمة ليست مصنفة كنشاط أصلي للمؤسسة المستفيدة بالخدمة.

ووصف مشروع التنقيح بالمتوازن بضمان حقوق الأجراء دون أن يلحق أي ضرر بالمؤسسات، إذ يحافظ على مرونتها التشغيلية.

وأوضح العموري، أن إشكالية التشريع القديم لمجلة الشغل تمثلت في كونه منح الحرية كاملة للمؤجرين دون أن يلقي بالًا لمصلحة الأجراء في وقت تقدر فيه نسبة البطالة بحوالي 16 بالمائة، مضيفًا إن من بين أكبر المعضلات التي طرحها تطبيق مجلة الشغل في صيغتها القديمة تركزت في منح المؤجرين امتياز اعتماد عقود الشغل محدودة المدة بهدف استقطاب الاستثمارات الأجنبية، ولكن هذا أثر عكسًا على الإطارات والكفاءات من الموارد البشرية التي ظلت تسعى نحو الاستقرار الوظيفي.

واعتبر الأستاذ الجامعي أن الصيغة الجديدة لمجلة الشغل جاءت مواكبة للقوانين الشغلية في الدول المتقدمة التي فرضت قيودًا مشددة على اعتماد المناولة، مشيرًا إلى أن آلية المناولة تسمح للمؤجرين بدفع أجور أقل من متوسط الأجور العادي، لكن يكون سداد هذه الأجور لقاء عمولات تدفعها المؤسسات المستفيدة لفائدة شركات المناولة.

وبالنظر إلى تبعية الأجراء ضمن عقود المناولة إلى شركات، متعاقدة بدورها مع مؤسسات مستفيدة، فإنهم يعيشون حالة من عدم الاستقرار الوظيفي، إذ يمكن الاستغناء عنهم في أي وقت، وهو ما سيكون ممنوعًا بموجب التنقيح الجديد لمجلة الشغل.

موقف اتحاد الشغل

في وقت سابق، طالب اتحاد الشغل التونسي بتوسيع دائرة المشاركة في صياغة تعديلات قانون العمل، محذراً من تنقيح أحادي لمجلة الشغل ومحاولة إلغاء الممثلين الشرعيين للعمال والنقابات من النقاشات حول مسائل ملفات مهمة تتطلب مشاورات ثلاثية بين الأطراف الاجتماعية.

وعبّر المكتب التنفيذي في بيان أصدره جويلية 2024، عن رفضه انفراد السلطة بتنقيح قانون الشغل، معتبرا ذلك "إلغاء للعمّال ولممثّليهم الشرعيين من النقابات واستفراداً بالقرار والسلطة ونسفاً للحوار الاجتماعي". وقالت المركزية النقابية إن ''إقصاء الهياكل المهنية والاستفراد بالقرار لا يمكن أن يخلّف إلّا الأخطاء والإخلالات والثغرات".

وأكدت المنظمة الشغيلة أن تنقيح قانون مجلة الشغل كان من ضمن مطالبها منذ أكثر من 18 سنة بهدف توفير مقوّمات العمل اللائق، وإنهاء كلّ أشكال العمل الهشّ وتحقيق الكرامة والأمان الوظيفي لكلّ العمّال والعمل على بلوغ مقولة الأجر المعيشي، وذلك من خلال ملاءمتها مع أحكام الدستور ومعايير العمل الدولية.

بالمقابل لم تصدر منظمة الأعراف او منظمة كوناكت الى حد الان بيانات بشان موقفها من تعديل مجلة الشغل والتهاء عقود المناولة.

مهدي الزغلامي

 

تم النشر في 17/03/2025