version française ilboursa

الصفقات العمومية في تونس... حجر عثرة أمام المستثمرين وفخ للمسؤولين

في الوقت الذي تحتاج فيه تونس الى كل الفرص الحقيقية لدفع نسق النمو وتنشيط الحركة الاقتصادية عبر خلق الديناميكية المطلوبة لحفز الاستثمار العمومي وخاصة الاستثمار الخاص الذي لا يختلف اثنان في كونه يمثل قاطرة دفع التنمية وتوفير مواطن الشغل، يعرف الاستثمار الخاص في تونس كما الاستثمار العمومي تعثرا كبيرا.

ولئن يجمع جل الخبراء والمتابعين للشأن الاقتصادي في تونس على ان مناخ الاستثمار والاعمال اضحى متعثرا ويشكل حجر عثرة امام القطاع الخاص فإن جانب من هذا التعثر يعود بالأساس الى قطاع الصفقات العمومية الذي ورغم التحسينات التي تم إدخالها في السنوات الأخيرة غير انه يظل حاجزا لدفع الاستثمار الخاص الذي لا يزال يصطدم بعراقيل إدارية معقدة تدفع باتجاه عدم الرغبة في المشاركة في الصفقات العمومية والتفكير في مجالات أخرى.

وبسبب النصوص القانونية القوية و"المتحجرة" فان عديد المشاريع تتعطل في تونس لعدة أشهر او لسنوات بسبب ما يعرف في أوساط الاعمال بعدم جدوى الطلب ليقع اسقاطه ما يستدعي إعادة الصفقة مجددا.

ومن نقاط ضعف وخطر الصفقات العمومية انها أضحت تمثل خطرا على المسؤولين وحتى الوزراء وقد تتسبب في سجنهم او ايقافهم بسبب خطأ في الإجراءات والامثلة عديدة في تونس في هذه الفترة على غرا سجن وزير الفلاحة السابق سمير بالطيب مع عدد من مسؤولي الوزارة وايداع والي سابق السجن في علاقة بقضايا في مجال اسناد الصفقات الحكومية.

مجال حيوي ومدخل للفساد

وباعتباره قطاعا حساسا وحيويا، يجمع جل المتدخلين من أصحاب شركات المقاولات ومحللين اقتصاديين على ان مجال الصفقات العمومية في تونس بات من الضروري ان يعرف أولا تغيرا جذريا في الجانب التشريعي وثانيا اكسابه المرونة اللازمة التي تجعله جاذبا للاستثمار وثالثا إضفاء النجاعة على مراحل إنجاز واعداد الصفقات الحكومية.

وافصحت مختلف التقارير الرقابية الحكومية وخاصة تقارير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أن قطاع طلبات العروض في الصفقات العمومية يعد مدخلا للفساد ويفتح الأبواب على مصراعيها لانتشار الرشوة والمحسوبية بإرساء صفقات على اشخاص بعينهم.

وكشف شوقي طبيب الرئيس السابق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في العديد من المناسبات ان الفساد المتعلق بالصفقات الحكومية تبلغ تكلفه حوالي 2 مليار دينار موضحا ان الصفقات العمومية تخسر 25 في المئة من قيمتها، بسبب غياب الحوكمة، مقرا بأن بعض القوانين المنظمة للصفقات التي لازالت تبيح الفساد والإفلات من العقاب.

مراجعة جذرية وشاملة

وشددت هذه التقارير على ان المنظومة ككل تحتاج إلى مراجعة وإصلاح شاملين من حيث طلب العروض والتقديم للشراءات العمومية والتنفيذ وحتى بعد التنفيذ.

ويتفق جل المختصين في تونس على انه من الضروري أولا تقييم جدي وشامل لقطاع الصفقات الحكومية من حيث الترسانة القانونية وخاصة اجراء مراجعة معمقة وشاملة للنصوص القانونية حتى تكون مواكبة أكثر لمتطلبات دفع الاستثمار والواقع الاقتصادي الراهن للبلاد

ويؤكد المختصون انه رغم إدخال تعديلات وتحسينات على التشريعات ورقمنة جزء من السلاسل القيمية للصفقات الحكومية يظل عامل الرشوة والفساد أكبر عائق امام الاستثمارات.

ويرون" ان ما وجود تونس في المرتبة 69 حسب مؤشر الشفافية الدولية لخير دليل على ذلك، معتبرين أن ملف الصفقات العمومية في علاقة الاستثمار لا يمكن اختزاله في بعض الامتيازات والتسهيلات وإنَما وجب إرفاقه بقوانين متطورة وحرب حقيقية على الفساد في المجال.

ووفق بيانات رسمية فان قطاع الصفقات الحكومية في تونس يصل مستوى معاملاته إلى 20 في المئة من الناتج الداخلي الخام.

مجال مُعطَل للاستثمار

بشهادة العديد من المتدخلين والمستثمرين فان القوانين المنظمة لقطاع الصفقات الحكومية بات معطلا حقيقيا لاستحثاث نسق الاستثمار وتسببه في العديد من الإشكاليات لشركات المقاولات خاصة وبقية القطاعات المتعاملة معها. ورغم الجهود المبذولة في سبيل دفع الاستثمار يبقى هذا الأخير مكبلا بإجراءات قانونية معقدة وبعوائق إدارية متشعبة.

ولئن نجحت تونس في تحسيت ترتيبها في مؤشر سهولة الاعمال فان معظم المستثمرين والمتدخلين في كل ما يخص مناخ الاعمال لا زالوا ضحايا النصوص القانونية المكبلة والإجراءات البيروقراطية المعقدة علاوة على ان السياسة الجزائية في تونس استدعت في العديد من الأحيان مراجعة عميقة تقطع مع التعطيلات التي تقف حجر عثرة امام المبادرة الخاصة.

وما تنقيح الفصل 96 من المجلة الجزائية التونسية مؤخرا (افريل 2021) لخير دليل على ذلك وقد مثل هذا الفصل عاملا مكبلا للمسؤولين في اخذ القرار وسيف مسلط على رقبة كل من يأخذ بزمام المبادرة صلب الإدارة التونسية.

والفصل 96 في صيغته السابقة عطّل كل ما له علاقة بروح المبادرة في الإدارة العمومية، إذ أن مسؤولين على أعلى مستوى بالإدارة أضحوا يتهرّبون من المسؤولية جرّاء استهداف زملائهم.

ووجب التذكير الى ان وزير الفلاحة التونسي السابق سمير بالطيب رهن الإيقاف التحفظي في السجن في قضية متعلقة بإحدى الصفقات الحكومية التي أمضى عليها عندما كان يسير الوزارة.

وجوب مراجعة معضلة "الأقل سعرا"

ومن جانبه افاد عبد الرحمن اللاحقة أستاذ الاقتصاد والتصرف في الجامعة التونسية ان قانون الصفقات العمومية في تونس أحد العوائق المكبلة للاستثمار. ولاحظ ان الإطار التشريعي المنظم للصفقات ثقيل جدا زادته بطء الإجراءات الإدارية وتشعبها ما يجعل الدولة عاجزة عن التقدم في مجال الاستثمار العمومي مضيفا ان الإدارات التونسية التي تقوم سنويا بعديد المشاريع تتعرض الى تعطيلات جراء طول مسار الإجراءات التي تنظمها الصفقات الحكومية ما ينعكس لاحقا على جودة الخدمات الإدارية على المواطنين.

واعتبر انه رغم إجراء تحسينا على القوانين المنظمة لمجال الصفقات في تونس منذ سنة 2016 بإنجاز "منظومة تونابس" الخاصة برقمنة الصفقات ووضعها على شبكة الانترنت لغرض مزيد إضفاء من الشفافية، إلا الأمور ظلت على حالها على مستوى طول الإجراءات في انجاز الصفقات.

وشدد المتحدث من جانب آخر على مسألة المبدأ القائم على إرساء العروض والطلبات على الأقل سعر، تعد معضلة حقيقية ويؤثر على نوعية الخدمات المسداة الى المواطنين بالفوز بصفقات ذات سعر متدني جدا ما سينعكس على توفر خدمات رديئة نظرا لسعرها المتدني.

واقترح عبد الرحمان اللاحقة وجوب الاسراع بإجراء تنفقيحات جذرية وعميقة على قانون الصفقات الحكومية حتى تكون أحد عناصر تطوير الخدمات الإدارية في تونس وجذب المستثمرين لا أحد المنفرين لهم.

كما أوصى بضرورة اختصار اجال إطلاق العروض التي تصل الى حوالي 3 أشهر لدراستها فضلا عن إيجاد طريقة لخلاص الشركات التي تفوز بصفقات حكومية في اجال قصيرة لا سيما وأنها تتعرض الى مشاكل مالية.

ودعا وختم تصريحه بالدعوة إلى أهمية إعطاء هامش كبير من التحرك لعدد من المؤسسات الحكومية بعدم مرورها على لجنة الصفقات الحكومية لإطلاق طلبات عروض يجعلها في منافسة مع الشركات الخاصة التي لديها أكثر حرية وهامش تحرك في انجاز صفقاتها بما يجعلها متقدمة في خدماتها على المؤسسات العمومية مستدلا في ذلك على قطاع الاتصالات والتكنولوجيات الحديثة.

مهدي الزغلامي

تم النشر في 17/11/2021