version française ilboursa

آخر الطب الكي

بقلم أنيس الوهابي 

على هامش مشاركته في قمة قادة الولايات المتحدة الأمريكية وإفريقيا المنعقدة بواشنطن، صرح الرئيس سعيد لوكالة تونس افريقيا للأنباء على ضرورة توخي "مقاربة تونسية حصرية" رافضا بذلك برنامج التمويل الذي كان النظر فيه من قبل مجلس ادارة صندوق النقد الدولي مبرمجا في الأيام القادمة ثم تم سحبه.

إن إعلان الرئيس سعيد يعني اجهاض الاصلاح الهيكلي الذي يضعه الصندوق كشرط للتمويل وهو كذلك سحب بساط للحكومة والبرنامج الذي تقترحه لهذا الغرض.

يحصل كل هذا وتونس تعيش أزمة اقتصادية غير مسبوقة، بدأت أولا بأزمة هيكلية عميقة للمالية العمومية، وانتهت بعد سنوات من الاهتزاز السياسي إلى وضعية اقتصادية شاملة تشتعل فيها كل المؤشرات باللون الأحمر: نسب نمو أضعف من المطلوب وعجز متفاقم للميزان التجاري وتضخم متفاقم في الاسعار… مما يوحي أن الأزمة الاجتماعية آتية لا ريب فيها ولا نعرف كيف سيكون تأثيرها على السلم الاجتماعي.

إن إعلان الرئيس يمس من موقف الحكومة وأعضاء الفريق الذي أعد البرنامج المقدم للصندوق، لكن الحكومة حكومته وهو حر في معاملاتها كما يريد وكما قبل به أعضاؤها وكلهم أعلم بشروط التعامل التي تم الاتفاق عليها.

كما أن الإعلان عن موقف الرئيس بعد أن تم ابرام الاتفاق التقني وايداع الملف لدى الصندوق وبرمجة النظر فيه يطرح اشكالا كبيرا في التوقيت وفي تحديد المسؤوليات بين الرئيس والحكومة والحال أن الفصل 8 من مرسوم 117 يحدد أن رئيس الجمهورية يمارس السلطة التنفيذية بمساعدة حكومة يرأسها رئيس حكومة. والرئيس هو الذي يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الاساسية وفقا للفصل 100 من دستور 2022.

يحق لنا أن نتساءل إذن كيف تم إعداد البرنامج المذكور ومن صادق عليه؟ كما يحق لنا أن نتساءل إن كان هناك أي تضارب يمس من مصداقية الدولة ونظام حكمها؟

وفي كل الأحوال فإن الموقف الرافض للـ"املاءات الأطراف الخارجية" والعولمة والمتضارب مع برنامج الحكومة يمكن أن يكون السبب في سحب الملف من طاولة صندوق النقد الدولي وهذا ليس مسألة تقنية بحتة، بل سوف يكون حدثا تاريخيا مفصليا في مستقبل تونس لا الاقتصادي فحسب ولكن أيضا من الجانب السياسي والاجتماعي.

لم يأت صندوق النقد الدولي ليدق باب تونس عارضا خدماته، لكن تونس مثل كل الدول الأخرى التي تلتجئ للصندوق، هي من قدمت طلبا في ذلك تبعا لتدهور وضعية ماليتها العمومية وهي من قدمت برنامجا للإصلاح الهيكلي وناقشته مع الفريق التقني للصندوق. وعليه فإن رفض الرئيس للاتفاق ولشروط الصندوق يعني التخلي عن برنامج اعادة الهيكلة باعتبار أنه لا يمكن ارغام الصندوق على برنامج لا يستجيب للقواعد التقنية التي يعتمدها عالميا.

إن هذه الوضعية توحي بخطأ في تحديد من يمكن له فرض الشروط ومن يجب أن يرضخ لها. أو كما تقول الحكمة الربانية "اليد العليا خير من اليد السفلى". إلا إذا كان وراء موقف الرئيس خطة بديلة لتمويل الميزانية وبرنامج الإصلاح الهيكلي. وفي هذه الوضعية يجوز التساؤل عن مدى التنسيق بين الرئيس وحكومته، كما يقتضي الأمر منطقيا، كما يجوز التساؤل عن جدوى الجهد المبذول مع الصندوق إن كان هناك حلول أخرى متاحة.

يؤكد الرئيس سعيد على ضرورة توخي تمشي جديد يضع الانسان في جوهر المسألة ليس فقط كرقم احصائي. كما يدعو لإيجاد حلول تونسية صرفة تستجيب لوضعيته. أي أفكار أنبل من هذه الأفكار؟ ولكن؟ هل تكفي الشعارات وحدها لتصريف الدول؟ وهل تكفي الخطابات لوضع قطار الاقتصاد التونسي على السكة إذا لم تتبعها قرارات واضحة وخطط معلنة وقدرة على التنفيذ؟

تعيش تونس منذ سنوات وضعية انسداد مؤسساتي على جميع الأصعدة حيث تعطلت كل برامج الاصلاح، بل وتضاربت في عديد الأحيان. وبينت الادارة على عجزها في غياب قيادة سياسية تحدد لها الرؤيا وتحررها من قيود القراءات القانونية الضيقة والمحافظة. كما تأثر القطاع الخاص بتشعب الاجراءات ومناخ الشك والتشكيك والحال أنه يجب أن يمثل القاطرة الأساسية للنمو. كما تأثر المناخ العام بتضارب تصريحات الرئيس مع قرارات الحكومة، آخرها حديثه عن رفضه للترفيع في الأسعار في نفس اليوم التي أعلنت فيه الحكومة تعديل أسعار المحروقات.

إن كان التضارب مألوفًا على الصعيد الداخلي، فإن ما حصل مع الأوساط الدولية يمثل نقطة قطيعة مهمة يجب الوقوف عندها في كل الحالات.

فنجاح الحكومة في اقناع الصندوق بعقد اتفاق رغم موقف الرئيس المعلن، وهو مستبعد، يعني تحييد الرئيس وإنهاء دوره حتى وإن لزم منصبه. وتعطل مشروع الاصلاح الذي يعتمد على الصندوق يعني إما تفعيل مخطط الرئيس غير المعلن وإما السقوط في أزمة غير مسبوقة سوف تكون آخر مرحلة من مسار تهديم النظام القائم.

يعرف البعض مفهوم الأمة بأنها تشارك في المعاناة وفي الحلم المشترك ويبدو أننا بكل ما يحدث نفتح الباب لمرحلة من المعاناة المشتركة التي سوف تؤدي في المستقبل البعيد إلى بناء حلم مشترك يبني أمة جديدة.

تم النشر في 22/12/2022